شهد التاريخ البشري مجموعة من الابتكارات التقنية التي أحدثت تغييرات جذرية في أنماط الحياة، وكان تأثيرها بمثابة ثورات صناعية متجددة ساهمت في رسم ملامح العالم الحديث. ومن أبرز هذه التحولات المعاصرة، ما نشهده اليوم من صعود الذكاء الاصطناعي الذي بات يعيد تشكيل الصناعات وبنى الحوسبة من جذورها.
تماماً كما غيّرت شبكة الإنترنت في تسعينيات القرن الماضي طبيعة استخدام الحواسيب، فإن الذكاء الاصطناعي اليوم يتخطى مجرد تحسين تجربة المستخدم، ليطال البنية التحتية الرقمية بأكملها، من قواعد البيانات إلى الحواسيب التجارية التي تشكل العمود الفقري لمؤسسات ضخمة.
وفي هذا المشهد المتسارع، تتنافس كبرى شركات التقنية في اتجاهين متوازيين: الأول يركز على تطوير أدوات ذكاء اصطناعي صديقة للمستخدم، بينما يسعى الثاني إلى تمكين الصناعات التقنية من بناء هذه النماذج، في سباق محموم نحو الهيمنة على مستقبل الذكاء الاصطناعي.
البطاقات الرسومية: قلب الثورة الجديدة
كما شهدنا من قبل تأسيس ما يعرف بمراكز البيانات لتلبية الطلب المتزايد على الإنترنت، فإن العصر الراهن يشهد إعادة بناء هذه المراكز لتتواءم مع متطلبات الذكاء الاصطناعي، الذي فرض نفسه كعنصر جوهري في الحوسبة الحديثة.
كانت قواعد البيانات في السابق تعتمد على تخزين البيانات وسرعة الاتصال، أما الآن، فقد أصبح الاعتماد الأكبر على البطاقات الرسومية التي توفر قدرة حوسبة هائلة تتفوق غالبًا على المعالجات المركزية والمعالجات العصبية المخصصة.
ومن خلال تجميع أكثر من 100 ألف وحدة معالجة رسومية في نظام موحد، تنشأ حواسيب خارقة تشكل العمود الفقري لمراكز البيانات الحديثة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، قادرة على معالجة كميات ضخمة من البيانات بكفاءة مذهلة.
الحواسيب الخارقة: من الاستخدام المحدود إلى العمود الفقري للذكاء الاصطناعي
في السابق، اقتصرت استخدامات البطاقات الرسومية على مجالات الإعلام، كتحريك الرسوم ثلاثية الأبعاد ومونتاج الفيديوهات، بالإضافة إلى صناعة ألعاب الفيديو، وكانت الشركات تنتج هذه البطاقات وفقاً لهذه الاحتياجات فقط.
لكن بعد اكتشاف فعاليتها في عمليات تعدين العملات الرقمية، توسعت استخداماتها بشكل هائل، مما أدى إلى أزمات نقص حادة في المعروض منها. واليوم، تُستخدم هذه البطاقات لتشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي، ويتم تركيب عشرات الآلاف منها في مراكز البيانات العملاقة.
إن إنشاء مركز بيانات مخصص للذكاء الاصطناعي لا يقتصر على حاسوب واحد، بل يتطلب بناء مجموعات من الحواسيب الخارقة، مما يجعل تكلفته تفوق مراكز البيانات التقليدية بأضعاف مضاعفة. فعلى سبيل المثال، أنفقت غوغل في عام 2006 نحو 600 مليون دولار على مركز بيانات واحد، بينما تخطط "أوبن إيه آي" الآن لاستثمار 100 مليار دولار في بناء خمسة مراكز فقط، مع توقعات بوصول التكلفة إلى 400 مليار لاحقًا.
وفي حين تتنافس الشركات الأمريكية على بناء مراكز ذكاء اصطناعي ضخمة، جاءت شركة "ديب سيك" الصينية لتبرهن على إمكانية تطوير نموذج متقدم دون الحاجة لمثل هذه الاستثمارات الضخمة، وذلك بالاعتماد على نماذج مفتوحة المصدر.
التأثير الاقتصادي العالمي لمراكز الذكاء الاصطناعي
لم تتوقف تبعات الذكاء الاصطناعي عند حدود تطوير الشرائح أو بناء مراكز البيانات، بل تجاوزت ذلك إلى التأثير على البنى التحتية للطاقة والتبريد. فكما خلقت الثورة الصناعية الحاجة إلى شبكات نقل ومرافق جديدة، فرضت مراكز البيانات الحديثة متطلبات نوعية تشمل مصادر طاقة قوية وآليات تبريد متقدمة.
ويكمن التحدي الأكبر في استهلاك الشرائح الرسومية للطاقة، بالإضافة إلى الحرارة العالية التي تولدها أثناء التشغيل، ما يستدعي حلول تبريد متطورة، منها استخدام المياه الجارية أو أنظمة تبريد مخصصة.
ومع تزايد أعداد مراكز الذكاء الاصطناعي، يتزايد الطلب على الكهرباء والمياه، ما يشكل ضغطًا كبيرًا على الموارد ويهدد التوازن البيئي في بعض المناطق.
شرائح مخصصة للذكاء الاصطناعي: تطور لا يتوقف
رغم فعالية الشرائح الرسومية الحالية من إنتاج شركات مثل إنفيديا، إلا أن تطور نماذج الذكاء الاصطناعي يفوق قدرة هذه الشرائح على التكيف، مما يدفع الشركات إلى تطوير وحدات جديدة.
تسعى غوغل وإنفيديا إلى ابتكار شرائح تحتوي على أنوية عصبية مخصصة لمعالجة الشبكات العصبية بشكل أكثر كفاءة، وهو ما يُعد خطوة حاسمة في دعم النمو المتسارع للذكاء الاصطناعي.
والسؤال هنا: لماذا تفضّل الشركات الشرائح الرسومية على الشرائح التقليدية؟ الجواب يكمن في آلية المعالجة؛ حيث تمتلك البطاقات الرسومية القدرة على تنفيذ آلاف العمليات بالتوازي، خلافًا للمعالجات المركزية التي تعمل بشكل تسلسلي.
فعند معالجة صورة مثلًا، يقوم المعالج التقليدي بتحليلها خطًا بخط، بينما توزع البطاقات الرسومية المهام على معالجات صغيرة تقرأ أجزاء مختلفة من الصورة في الوقت ذاته، ما يمنحها سرعة وكفاءة فائقة في التعامل مع البيانات المعقدة.
ومن هذا المنطلق، بدأت إنفيديا وغوغل بتطوير بطاقات تحتوي على عدد أكبر من الموصلات الدقيقة داخل الشريحة نفسها، في خطوة نحو تحسين كفاءة المعالجة وتقليل استهلاك الطاقة.
ازدهار مراكز البيانات الحديثة: الكم أهم من القوة الفردية
ليست قوة البطاقة الرسومية الواحدة هي العنصر الحاسم، بل عدد هذه البطاقات في مركز البيانات هو ما يصنع الفارق. فكلما زاد عدد البطاقات، زادت قدرة المركز على تشغيل نماذج ذكاء اصطناعي أكثر تطورًا.
وقد دفع هذا الأمر شركات مثل "ميتا" إلى بناء عدة مراكز بيانات متجاورة في منطقة واحدة، كما حدث عندما أنشأت خمسة مراكز في صحراء ولاية يوتا، قبل أن تضيف مركزين جديدين لتلبية الطلب المتزايد.
ومع توسع هذه البنية، ارتفعت بشكل ملحوظ معدلات استهلاك الطاقة، إذ تتطلب الحواسيب المعتمدة على البطاقات الرسومية كهرباء أكثر بكثير من الحواسيب التقليدية.
استهلاك الطاقة الهائل: التحدي الأكبر أمام الذكاء الاصطناعي
مثال حي على هذه الأزمة هو ما قامت به شركة "سيراسكيل" عام 2023، عندما قامت بتحويل مركز بيانات تقليدي تبلغ مساحته 13 ألف متر مربع إلى مركز مخصص للذكاء الاصطناعي. ورغم أن الاستهلاك كان 5 ميغاواط لـ80 صفاً من الحواسيب، فإن العدد نفسه من الطاقة لا يكفي الآن لتشغيل سوى 10 صفوف فقط بعد التحديث!
وحتى إذا رفعت الشركة استهلاكها 10 أضعاف، فلن يكون ذلك كافيًا لتشغيل نفس كمية الأجهزة الجديدة، ما يكشف عن التحدي الجسيم الذي تواجهه مراكز البيانات من حيث الطاقة.
وتشير التقارير إلى أن مراكز الذكاء الاصطناعي تستهلك ما يزيد عن 4% من إجمالي الطاقة المنتجة في الولايات المتحدة، مع توقع تضاعف هذه النسبة في السنوات المقبلة، مما يدفع الشركات للبحث عن مصادر بديلة مثل الطاقة النووية أو الشمسية.
أنظمة تبريد مبتكرة: تبريد بالماء بدل الهواء
بسبب الحرارة الهائلة الناتجة من شرائح الذكاء الاصطناعي، لم تعد أنظمة التبريد الهوائية التقليدية كافية. ولهذا طورت الشركات طرقًا أكثر فاعلية، مثل نظام التبريد بالمياه الذي تستخدمه غوغل في مركز بياناتها ببلدة "بريور" الزراعية في أوكلاهوما.
يتضمن النظام تمرير المياه الباردة بالقرب من الحواسيب، بحيث تسحب الحرارة من الشرائح وتحافظ على كفاءتها، وتشبه هذه التقنية نظام التبريد السائل في الحواسيب المنزلية.
لكن المياه بطبيعتها موصل جيد للكهرباء، مما قد يعرض الشرائح للتلف، لذلك تستخدم غوغل مواد كيميائية لتقليل التوصيل الكهربائي وجعل المياه أكثر أماناً.
وبحسب تقارير 2023، استهلكت مراكز بيانات غوغل أكثر من 6.1 مليارات غالون من المياه، قبل أن تضيف 11 مركزاً جديداً في ولايات مختلفة، ما يشير إلى ضغط متزايد على موارد المياه العالمية.
نحو مركز بيانات مثالي: البحث عن حلول مستدامة
رغم تعدد المحاولات لإيجاد حلول فنية وبيئية لتحديات مراكز البيانات، فإن جوهر الأزمة لا يزال في الطلب المتصاعد على الطاقة والموارد. وبينما أثبتت "ديب سيك" إمكانية تشغيل نموذج متقدم بمصادر مفتوحة، تبقى هذه الطريقة غير قابلة للتطبيق على نطاق واسع.
لذا، فإن تطوير شرائح أكثر كفاءة، أو ربما الاعتماد مستقبلاً على الحوسبة الكمومية، يمثل الأمل الحقيقي في تقليل استهلاك الطاقة وتقليل الحاجة لموارد ضخمة.
وفي النهاية، فإن استمرار مراكز الذكاء الاصطناعي بهذا المستوى من الاستهلاك سيترك آثارًا بيئية واقتصادية عميقة، تتطلب إعادة نظر شاملة في تصميمها وتشغيلها إن أردنا ضمان مستقبل مستدام للتقنية والبشرية معًا.